أما عن الرجال فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد، لقول ربنا:{ ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد}. ولأن النبي ﷺ لم يعتكف إلا في المسجد، وحكى غير واحد الإجماع على ذلك، كابن عبد البر.(التمهيد.325/8). والقرطبي (جامع الأحكام.333/2). وابن قدامة.(المغني.189/3). ووُهبة.(التفسير المنير.161/2).

لكن ذهب بعضهم إلى أن المسجد لا يشترط للرجال، حكاه القاضي عياض عن ابن لبابة المالكي.(إكمال المعلم.150/4). وابن رشد في (بداية المجتهد.77/2).

قالوا لا دليل على اشتراط المسجد، أما قول ربنا :{وأنتم عاكفون في المساجد} فليس دليلا، لأن النهي عن الشيء مقيد بحال لها متعلق لا يدل على أن تلك الحال، إذا وقعت من المنهيين يكون ذلك المتعلق شرطا في وقوعها.
 ونظير ذلك: لا تضرب زيدا وأنت راكب فرسا ولا يلزم من هذا أنك متى ركبت فلا يكون ركوبك إلا فرسا، فذكر: المساجد، إنما هو لأن الاعتكاف غالبا لا يكون إلا فيها، لا أن ذلك شرط في الاعتكاف.(البحر المحيط.221/2).

ولم يوافق على ذلك أحد من أهل العلم، قال ابن رشد:"ولكن هو قول شاذ".(بداية المجتهد.77/2).

أما المرأة فقد اختلف العلماء في اعتكافها في بيتها، فذهب الجمهور إلى عدم جواز ذلك، واستدلوا :

- قال ربنا:{ ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد}. وهذا عام، قال عياض رحمه الله:" وفيها أن الاعتكاف لا يكون إلا فى مسجد للرجال والنساء".(إكمال المعلم.150/4).

-عن أمنا عائشة أن رسول الله ﷺ:" ذكر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فاستأذنته عائشة، فأذن لها".(البخاري2045.مسلم.1173). فلو كان مشروعا في البيت لأمرها النبي ﷺ بالاعتكاف فيه.

- عن ابن عباس قال:"لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الصلوات"(صحيح رواه عبد الله في مسائله.ص:196).

- عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "إن أبغض الأمور إلى الله البدع وإن من البدع الاعتكاف في المساجد التي في الدور "(البيهقي.8573).

وذهب الحنفية إلى جواز ذلك واستدلوا :

- قال النبي :" لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن".(صحيح رواه أبو داود.567). وقالوا النافلة في البيت أفضل والاعتكاف منها.

- استأذنت بعض أمهات المؤمنين النبي  مسجد تجمع فيه الصلوات للاعتكاف أإذن لهن، فإذ بهن اجتمعن،  فبصر بالأبنية، فقال: ما هذا؟. قالوا: بناء عائشة، وحفصة، وزينب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البر أردن بهذا، ما أنا بمعتكف".(البخاري.2045.مسلم.1173). ووجه الدلالة أن النبي كره ﷺ اعتكفاهن في المسجد.
وحقيقة هذا الحديث لا دليل فيه على ما قالوا، لأن ﷺ إنما قال ذلك لتنافسهن لا لصلاتهن في المسجد.

فالاعتكاف لا يكون إلا في المسجد، فهو عبادة متعلقة بالمسجد.
 ومن كان معتادا على ذلك فسيكتب له أجر الاعتكاف وإن لم يعتكف، قال النبي ﷺ:"إذا مرض العبد، أو سافر، كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا".(البخاري.2996). ولقوله ﷺ :"إن أقواما بالمدينة خلفنا، ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر".(البخاري.2839.مسلم.1911). ولقوله ﷺ:"ما من رجل تكون له ساعة من الليل، يقومها فينام عنها، إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة، تصدق به عليه".(صحيح رواه أحمد.24340).

مع العلم يإمكانية الاعتكاف بعد الجائحة، فالاعتكاف مشروع كل أيام السنة ولا يقتصر على العشر الأواخر، وقد اعتكف النبي ﷺ في شوال كما عند (البخاري.2045.مسلم.1173). وحتى على القول  بأنه لا يكون إلا في رمضان لكان القول بجواز قضائه أولى من تجويزه في البيوت فتأمل..

 #قاسم_اكحيلات.


أهم الصفات التي ينبغي أن تكون فينا لنكون مع الذين "لا خوف عليهم ولا هم يحزنون"

قال تعالى :
*في سورة البقرة*

"قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" (38)

"إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" (62)

"بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون" (112)

"الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون" (262)

"الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون "(274)

"إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون"(277)

*وفي سورة آل عمران*

"وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون"(170)

*وفي سورة المائدة*

"إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون" (69)

*وفي سورة الأنعام*

وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)

*وفي سورة الأعراف*

"يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" (35)

"وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ" (49)

*وفي سورة يونس*

"أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ "(63)

*وفي سورة الزخرف*

"يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ "(69)

*وفي سورة الأحقاف*

"إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ "(14)

جعلنا الله منهم

وسبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك

 يرغب سائر المسلمين أن تكون لهم في يوم العيد أضحية يريقون دمها ويأكلون لحمها، ولكن هل من سائل سأل نفسه: لماذا أضحّْي ؟

سؤال قد يبدو غريباً، واستفهام قد يظهر عجيباً، ولكن من سمع ويسمع أجوبة الناس على مثل هذا السؤال؛ يزول عجبه ويعلم وجاهة هذا الاستفسار وكذا فائدته وأهميته.

يجيبك كثير من الناس عن ذاك السؤال بقولهم: أريد أن أُفرِح الأولاد وأدخل البهجة عليهم في يوم العيد.

ومن أجل هذا السبب تجده يستدين ولا طاقة له على الوفاء كي لا يمر العيد على أبنائه من دون أضحية تَسرُّهم وتُبهِجهم.

ويجيب بعضهم بأنه ما ذبح أضحيته إلاّ لإشباع شهوته للَّحم ، ولذا تجد من هذه حاله قد يعدِل عن شراء أضحية إلى شراء اللحم إذا كان ثمن الأضحية قد يربحه لحماً زائدا يشبعه مع عياله ، ويكون أرفق بجيبه وأوفر لماله.

في حين يجيب الآخر بأن شراء الأضحية للعيد عادةُ كلِّ الناس، فلا ملجأ من ذلك ولا مناص، فيشتري المسكين مجاراة لجيرانه ، وموافقة لأصحابه وأقرانه.

ويقول آخرـ مجيبا ـ :وكيف لا أضحي ؟ فهذا عيب أعاب به، وعار أُعيَّر بسببه، أتريد أن أوسم بالبخل أو أنعت بالفقر؟!

وكل هذا أيها السادة؛ مما نسمعه وتسمعونه، ونعلمه وتعلمونه، وما لم نذكره من إجابات الناس أكثر، وما خفي علينا من ذلك أكبر.

تصويب:

ولكننا نقول لإخواننا هؤلاء مصوِّبين، ولهم منبِّهين، ولفهمهم مقوِّمين: إنَّ هذا كلَّه أيها الأحباب خطأ ينبغي اجتنابه، فإن قلتم: وما وجه مجانبته للصواب؟ قلنا مجيبين وبربنا مستعينين :ألم تعلموا أيُّها الأحبة أن الأضحية عبادة من أجلِّ العبادات، وطاعة من أفضل الطاعات، يتقرب بها المضحُّون إلى رب الأرض والسماوات؟ فإذا كانت كذلك، أفليست ـ كسائر الطاعات ـ تفتقر إلى صلاح نية وإخلاص إلى رب البرية؟ فقد قال العزيز جل جلاله: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾[البينة:5]،وقال سبحانه:﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لله الدِّين الْخَالِصُ﴾[الزمر:2-3]،وقال جل ثناؤه: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي﴾[الزمر:11-14]، وقال تقدست أسماؤه : ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الحج:37]، قال الطبري ـ رحمه الله ـ : يقول تعالى ذكره: «لن يصل إلى الله لحوم بُدْنِكم ولا دماؤها، ولكن يناله اتقاؤكم إياه أن اتقيتموه فيها، فأردتم بها وجهه، وعملتم فيها بما ندبكم إليه وأمركم به في أمرها وعظمتم بها حرماته». [(17/216 )،ط / ابن حزم].

فكل من نوى شيئا من تلكم النيات أدركه، كما قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه » [متفق عليه].

فمن نوى بأضحيته التقرب إلى الله ونيلَ مرضاته فله ما نوى، ومن نوى بها إفراحَ أولاده فحسب أو نوى أكل اللحم وإشباع نهمته فحسب فله ما نوى، ﴿ولا يظلم ربك أحداً﴾، وليسلهذين وأمثالهما أجر التقرب إلى الله بالأضحية، ذلكم أنَّ الله غني لا يقبل إلا ما كان له خالصا وليس لغيره فيه شيء، فعن أبي هريرة،قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركتُه وشركَه» [مسلم:2985]،ولا يفهمن فاهم ـ عنّي ـ أنّ الأكل من الأضحية محرم، كيف وقد قال صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل» [انظر:"الصحيحة" للألباني (ح1282)].

ألا فلتنتبهوا معشر المضحين إلى هذا الأمر الجلل، ولا تذروا أموالكم تذهب سدىً من غير أجر تحصلونه، وثواب ليوم العرصات تدَّخرونه، وإياكم أن يغلبكم أولادكم وأزواجكم على نياتكم؛ فما تشترون الأضاحي إلا من أجلهم، وقد أنذركم ربكم ذلك فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [التغابن :14ـ15]، فطيبوا بأضاحيكم نفسا، وابتغوا بها ما عند الله والدار الآخرة،﴿وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الأعلى:17]

بِسْــــــــــــــــمِ اﷲِالرَّحْمَنِ الرَّحِيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله قد ذم المشركين المقلدين لآبائهم في الكفر والطغيان من غير دليل ولا برهان، وعاب عليهم صنيعهم؛ قال الله تعالى حاكياً عن خليله إبراهيم أنه قال لأبيه وقومه: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:52-53].

وقد ورث هذه الخصلة الخسيسة بعض المقلدة من المسلمين، قال العلامة الشوكاني في قوله: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ}: "أجابوه بهذا الجواب الذي هو العصا التي يتوكأ عليها كل عاجز والحبل الذي يتشبث به كل غريق وهو التمسك بمجرد تقليد الآباء: أي وجدنا آباءنا يعبدونها فعبدناها اقتداء بهم ومشياً على طريقتهم، وهكذا يجيب هؤلاء المقلدة من أهل هذه الملة الإسلامية، وإن العالِم بالكتاب والسنة إذا أنكر عليهم العمل بمحض الرأي المدفوع بالدليل، قالوا هذا قد قال به إمامنا الذي وجدنا آباءنا له مقلدين وبرأيه آخذين وجوابهم هو ما أجاب به الخليل ها هن" (راجع فتح القدير [3/589]).

وفي القرآن الكريم كثير من الآيات تبين خطورة التقليد، ومن هذه الآيات ما جاء في سورة البقرة، والتي سنقف معها في هذا الدرس، والله نسأل الله أن يرزقنا اتباع الكتاب والسنة، وأن يجنبنا سلوك طريق الزيغ والضلال، إنه سميع مجيب الدعاء.

الآيات:

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ . إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ . وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ . وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:168-171].

شرح الآيات:

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} المراد بـ{النَّاسُ} بنو آدم. قوله: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ} "مِن" يحتمل أن تكون لبيان الجنس؛ ويحتمل أن تكون للتبعيض؛ لكن كونها لبيان الجنس أولى؛ ويرجحه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة:29]؛ أي كلوا من هذا ما شئتم؛ ويشمل كل ما في الأرض من أشجار، وزروع، وبقول، وغيرها؛ ومن حيوان أيضاً؛ لأنه في الأرض.

قوله: {حَلالًا} منصوبة على الحال من "ما"؛ أي كلوه حال كونه حلالاً -أي محللاً-؛ فهي بمعنى اسم المفعول؛ و{طَيِّباً} حال أخرى -يعني: حال كون طيباً- مؤكد لقوله تعالى: {حَلالًا}.

قوله: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}؛ {لا} ناهية؛ و{خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي أعماله التي يعملها، ويخطو إليها؛ وهو شامل للشرك فما دونه؛ فإن الشيطان يأمر بالفحشاء، والمنكر؛ قال تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:169]، وقال تعالى: {وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [النور:21]؛ فكل شيء حرّمه الله فهو من خطوات الشيطان سواء كان عن استكبار، أو تكذيب، أو استهزاء، أو غير ذلك؛ لأنه يأمر به، وينادي به، ويدعو إليه؛ و{الشَّيْطَانِ} من: شطن؛ فالنون فيه أصلية؛ وليس من "شاط"؛ لأنه مصروف في القرآن؛ قال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير:25]؛ ومعنى "شطن" بعُد؛ فسُمِّيَ الشيطان بذلك لبعده عن رحمة الله عز وجل.

قوله: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} محل هذه الجملة استئنافية تعليل لما قبلها؛ والعدو ضد الصديق؛ وإن شئت فقل: ضد الولي؛ لقوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} [الممتحنة من الآية:1].

وقوله: {مُبِينٌ} أي ظاهر العداوة؛ وقد كان عدواً لأبينا آدم صلى الله عليه وسلم؛ فما زالت عداوته إلى قيام الساعة؛ وقال تعالى عنه: {لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا . وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ} [النساء:118-119]، ثم قال تعالى: {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} [النساء:119].

قوله: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ}؛ {إِنَّمَا} أداة حصر؛ و"الحصر" إثبات الحكم في المذكور، ونفيه عما سواه؛ يعني ما يأمركم إلا بالسوء والفحشاء... إلخ.

وقوله: {يَأْمُرُكُمْ} أي الشيطان؛ والخطاب للناس جميعاً؛ لأن الآيات كلها سياقها للناس.

وقوله: {بِالسُّوءِ} أي كل ما يسوء من المعاصي الصغيرة؛ أي السيئات؛ و{وَالْفَحْشَاءِ} أي المعاصي الكبيرة؛ كالزنا، فهو يأمر بهذا، وبهذا؛ مع أن المعاصي الصغار تقع مكفّرة بالأعمال الصالحة إذا اجتنبت الكبائر؛ لكنه يأمر بها؛ لأنه إذا فعلها الإنسان مرة بعد أخرى فإنه يفسق، ويقسو قلبه.

قوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} معطوف على قوله تعالى: {بِالسُّوءِ} يعني أن الشيطان يأمركم أن تقولوا على الله ما لا تعلمون -أي تنسبوا إليه القول من غير علم-؛ وعطْف {أن تقولوا على الله ما لا تعلمون} على {السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} من باب عطف الخاص على العام؛ فإنه داخل إما في السوء، أو الفحشاء؛ وهو أيضاً إلى الفحشاء أقرب.

قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ}؛ {قِيلَ} مبني أصلها "قُوِل"؛ لكن صار فيها إعلال؛ وهي أن الواو مكسورة فقلبت ياءً، فكُسر ما قبلها للمناسبة؛ و{لَهُمُ} أي للكفار.

قوله: {اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} عقيدةً، وقولاً، وفعلاً؛ و{مَا} اسم موصول يفيد العموم، فتشمل جميع ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب، والحكمة؛ وقد قال كثير من أهل العلم: "الحكمة" هي السنة.

قوله: {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}؛ {بَلْ} هذه للإضراب الإبطالي؛ يعني: قالوا مبطلين هذا القول الذي قيل لهم: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}؛ {ما} اسم موصول؛ {أَلْفَيْنَا} أي وجدنا؛ كما قال الله تعالى في آية أخرى: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} [لقمان:21]؛ والقرآن يُفسّر بعضه بعضاً.

وقوله: {مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} يعني ما وجدناهم عليه من العقيدة والعمل، حقاً كان أو باطلاً؛ و{آبَاءنَا} يشمل الأدنى منهم والأبعد؛ وجوابهم هذا باطل؛ ولهذا أبطله الله تعالى في قوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}؛ والمعنى: أيتبعون آباءهم ولو كان آباؤهم في هذه الحال التي لا يستحقون أن يُتَّبعوا فيها لا يعقلون شيئاً؛ والمراد بالعقل هنا عقل الرشد؛ لا عقل الإدراك؛ فآباؤهم أذكياء، ويدركون ما ينفعهم، وما يضرهم؛ ولكن ليس عندهم عقل رشد -وهو حسن تصرّف-.

وقوله تعالى: {شَيْئاً} نكرة في سياق النفي؛ والنكرة في سياق النفي للعموم.

قوله: {وَلا يَهْتَدُونَ} أي لا يعملون عمل العالم المهتدي؛ وبهذا انتفى عنهم الرشد في العمل؛ والعلم في طريق لا يستحقون أن يتبعوا؛ ولهذا جاءت همزة الإنكار في قوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}؛ وأقرب شبه لهؤلاء الآية التي بعدها.

قوله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} يعني كمثل الراعي الذي ينادي.

قوله: {بِمَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ} وهم البهائم؛ فهؤلاء مثلهم كمثل إنسان يدعو بهائم لا تسمع إلا صوتاً ولا تفهم دعاءً، ولا نداءً؛ و"الدعاء" إذا كان يدعو شيئاً معيناً باسمه؛ وَ"النداء" يكون للعموم؛ وهناك بهائم يسميها الإنسان باسمها بحيث إذا ناداها بهذا الاسم أقبلت إليه؛ والنداء العام لجميع البهائم هذا لا يختص به واحدة دون أخرى؛ فتقبل الإبل جميعاً؛ لكن مع ذلك لا تقبل على أساس أنها تعقل، وتفهم، وتهتدي؛ ربما يناديها لأجل أن ينحرها؛ هؤلاء الكفار مثلهم -في كونهم يتبعون آباءهم بدون أن يفهموا هذه الحال التي عليها آباؤهم- كمثل هذا الناعق بالماشية التي لا تسمع إلا دعاءً، ونداءً.

قوله: {صُمٌّ} جمع أصم؛ وهو الذي لا يسمع؛ و{بُكْمٌ} جمع أبكم؛ وهو الذي لا ينطق؛ و{عُمْيٌ} جمع أعمى؛ وهو الذي لا يبصر؛ أي فهم صم عن سماع الحق؛ ولكن سماع غيره لا فائدة منه؛ فهو كالعدم؛ وهم بُكم لا ينطقون بالحق؛ ونطقهم بغير الحق كالعدم؛ لعدم نفعه؛ وهم كذلك عُمي لا يبصرون الحق؛ وإبصارهم غير الحق لا ينتفعون به.

قوله: {فَهُمْ لَا يَعْقِلُوُنَ} أي لكونهم صماً بكماً عمياً فهم لا يعقلون عقل رشد -وإن كان عندهم عقل إدراك-؛ فلعدم انتفاعهم بعقولهم نفى الله عنهم العقل؛ ورتب الله انتفاء العقل عنهم على كونهم صماً بكماً عمياً؛ لأن هذه الحواس وسيلة العقل والإدراك.
فوائد الآيات:

1- إظهار منة الله على عباده، حيث أباح لهم جميع ما في الأرض من حلال طيب؛ لقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً}.

2- أن الأصل فيما في الأرض الحل والطيب حتى يتبين أنه حرام.

3- أنه يجب على العاقل أن يأخذ حذره من الشيطان، ومن نزغاته، ومن طرقه وسبله، فإنه عدو مبين، وقد أبان الله عداواته، وحذّر من اتباع خطواته؛ لقوله: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}. وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].

4- أن الإنسان إذا وقع في قلبه همّ بالسيئة أو الفاحشة فليعلم أنها من أوامر الشيطان، فليستعذ بالله منه؛ لقوله تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأعراف:200].

5- أن القول على الله بلا علم من أوامر الشيطان؛ لقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}.

6- تحريم الفتوى بلا علم؛ فإن المفتي يقول على الله، ويعبر عن شرع الله؛ وقد جاء ذلك صريحاً في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33].

7- ذم التقليد وقبحه والمنع منه؛ والبحث فيه يطول، ومن أراد الاستيفاء فليراجع: "القول المفيد في حكم التقليد" وأدب الطلب ومنتهى الأرب" للشوكاني.

8- أن من تعصّب لمذهب مع مخالفة الدليل ففيه شبه من هؤلاء؛ والواجب أن الإنسان إذا قيل له: "اتبع ما أنزل الله" أن يقول: "سمعنا وأطعنا".

9- أن كل من خالف الحق، وما أنزل الله فليس بعاقل، وليس عنده هدًى؛ لقوله تعالى: {لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}.

10- أن هؤلاء في اتباع آبائهم مثل البهائم التي تستجيب للناعق وهي لا تسمع إلا صوتاً ولا تفهم دعاءً، ولا نداءً؛ لا تسمع شيئاً تعقله، وتعرف فائدته، ومضرة مخالفته [1].

والله أعلى وأعلم.

موقع إمام المسجد 


عبد الرحمن بن عوف أحد الثمانية السابقين الى الإسلام ، عرض عليه أبو بكر الإسلام فما غُـمَّ عليه الأمر ولا أبطأ ، بل سارع الى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يبايعه وفور إسلامه حمل حظـه من اضطهاد المشركين ، هاجر الى الحبشة الهجـرة الأولى والثانيـة ، كما هاجر الى المدينـة مع المسلميـن وشهـد المشاهد كلها ، فأصيب يوم أُحُد بعشريـن جراحا إحداها تركت عرجا دائما في ساقه ، كما سقطت بعـض ثناياه فتركت هتما واضحا في نطقه وحديثه التجارة كان -رضي الله عنه- محظوظا بالتجارة إلى حد أثار عَجَبه فقال :( لقد رأيتني لو رفعت حجرا لوجدت تحته فضة وذهبا )وكانت التجارة عند عبد الرحمن بن عوف عملاً وسعياً لا لجمع المال ولكن للعيش الشريف ، وهذا ما نراه حين آخى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار ، فآخى بين عبد الرحمن بن عوف و سعد بن ربيع ،فقال سعد لعبد الرحمن :( أخي أنا أكثر أهل المدينة مالا ، فانظر شطر مالي فخذه ، وتحتي امرأتان ، فانظر أيتهما أعجب لك حتى أطلّقها وتتزوجها )فقال عبد الرحمن :( بارك الله لك في أهلك ومالك ، دُلوني على السوق )وخرج الى السوق فاشترى وباع وربح حق الله كانت تجارة عبد الرحمن بن عوف ليست له وحده ، وإنما لله والمسلمون حقا فيها ، فقد سمع الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول يوما :( يا بن عوف إنك من الأغنياء ، وإنك ستدخل الجنة حَبْوا ، فأقرض الله يُطلق لك قدميك )ومنذ ذاك الحين وهو يقرض الله قرضـا حسنا ، فيضاعفـه الله له أضعافـا ، فقد باع يوما أرضا بأربعين ألف دينار فرّقها جميعا على أهله من بني زُهرة وأمهات المسلمين وفقراء المسلمين ،وقدّم خمسمائة فرس لجيوش الإسلام ، ويوما آخر ألفا وخمسمائة راحلة ، وعند موته أوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله ، وأربعمائة دينار لكل من بقي ممن شهدوا بدرا حتى وصل للخليفة عثمان نصيبا من الوصية فأخذها وقال :( إن مال عبد الرحمن حلال صَفْو ، وإن الطُعْمَة منه عافية وبركة )وبلغ من جود عبد الرحمن بن عوف أنه قيل :( أهل المدينة جميعا شركاء لابن عوف في ماله ، ثُلث يقرضهم ، وثُلث يقضي عنهم ديونهم ، وثلث يصِلَهم ويُعطيهم )وخلّف بعده ذهبُ كثير ، ضُرب بالفؤوس حتى مجلت منه أيدي الرجال قافلة الإيمان في أحد الأيام اقترب على المدينة ريح تهب قادمة اليها حسبها الناس عاصفة تثير الرمال ، لكن سرعان ما تبين أنها قافلة كبيرة موقَرة الأحمال تزحم المدينة وترجَّها رجّا ، وسألت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- :( ما هذا الذي يحدث في المدينة ؟)وأُجيبت أنها قافلة لعبد الرحمن بن عوف أتت من الشام تحمل تجارة له فَعَجِبَت أم المؤمنين :( قافلة تحدث كل هذه الرجّة ؟)فقالوا لها :( أجل يا أم المؤمنين ، إنها سبعمائة راحلة )وهزّت أم المؤمنين رأسها وتذكرت :( أما أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول :( رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حَبْوا )ووصلت هذه الكلمات الى عبد الرحمن بن عوف ، فتذكر أنه سمع هذا الحديث من النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر من مرة ، فحثَّ خُطاه الى السيدة عائشة وقال لها :( لقد ذكَّرتني بحديث لم أنسه )ثم قال :( أما إني أشهدك أن هذه القافلة بأحمالها وأقتابها وأحْلاسِها في سبيل الله )ووزِّعَت حُمولة سبعمائة راحلة على أهل المدينة وما حولها الخوف وثراء عبد الرحمن -رضي الله عنه- كان مصدر إزعاج له وخوف ، فقد جيء له يوما بطعام الإفطار وكان صائما ، فلما وقعت عليه عيناه فقد شهيته وبكى ثم قال :( استشهد مصعب بن عمير وهو خير مني فكُـفّـن في بردة إن غطّت رأسه بدت رجلاه ، وإن غطّت رجلاه بدا رأسه ، واستشهد حمزة وهو خير مني ، فلم يوجد له ما يُكَـفّـن فيه إلا بردة ، ثم بُسِـطَ لنا في الدنيا ما بُسـط ، وأعطينا منها ما أعطينا وإني لأخشى أن نكون قد عُجّلـت لنا حسناتنا ) كما وضع الطعام أمامه يوما وهو جالس مع أصحابه فبكى ، وسألوه :( ما يبكيك يا أبا محمد ؟) قال :( لقد مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما شبع هو وأهل بيته من خبز الشعير ، ما أرانا أخّرنا لما هو خير لنا ) وخوفه هذا جعل الكبر لا يعرف له طريقا ، فقد قيل :( أنه لو رآه غريب لا يعرفه وهو جالس مع خدمه ، ما استطاع أن يميزه من بينهم ) الهروب من السلطة كان عبد الرحمن بن عوف من الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر الخلافة لهم من بعده قائلا :( لقد توفي رسول الله وهو عنهم راض )وأشارالجميع الى عبد الرحمن في أنه الأحق بالخلافة فقال :( والله لأن تُؤخذ مُدْية فتوضع في حَلْقي ، ثم يُنْفَذ بها إلى الجانب الآخر ، أحب إليّ من ذلك )وفور اجتماع الستة لإختيار خليفة الفاروق تنازل عبد الرحمن بن عوف عن حقه الذي أعطاه إياه عمر ، وجعل الأمر بين الخمسة الباقين ، فاختاروه ليكون الحكم بينهم وقال له علي -كرم الله وجهه- :( لقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصفَك بأنك أمين في أهل السماء ، وأمين في أهل الأرض )فاختار عبد الرحمن بن عوف ( عثمان بن عفان ) للخلافة ، ووافق الجميع على إختياره وفاته في العام الثاني والثلاثين للهجرة جاد بأنفاسه -رضي الله عنه- وأرادت أم المؤمنين أن تخُصَّه بشرف لم تخصّ به سواه ، فعرضت عليه أن يُدفن في حجرتها الى جوار الرسول وأبي بكر وعمر ، لكنه استحى أن يرفع نفسه الى هذا الجوار ، وطلب دفنه بجوار عثمان بن مظعون إذ تواثقا يوما أيهما مات بعد الآخر يدفن الى جوار صاحبه وكانت يتمتم وعيناه تفيضان بالدمع :( إني أخاف أن أحبس عن أصحابي لكثرة ما كان لي من مال )ولكن سرعان ما غشته السكينة واشرق وجهه وأرْهِفَت أذناه للسمع كما لو كان هناك من يحادثه ، ولعله سمع ما وعده الرسول -صلى الله عليه وسلم- :( عبد الرحمن بن عوف في الجنة ) …

بِسْــــــــــــــــمِ اﷲِالرَّحْمَنِ الرَّحِيم

نسبه :

ينتمي سعيد بن زيد بن عمرو إلى قبيلة عديٍّ، أحد القبائل العشر التي توزَّعت سلطات المجتمع المكي قبل بزوغ الإسلام، وهو ابن عم عمر بن الخطاب وزوج أخته فاطمة.
إسلامه :
وكان سعيد من السابقين إلى الإسلام؛ إذ أسلم قبل أن يدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم وقبل أن يدعو فيها، وكان رجلاً طويلاً، آدم "أسمر"، أشعر "كثير الشعر".

البشارة بالجنة :

وكان أحد تسعة يقفون دائمًا أمام رسول الله في القتال ووراءه في الصلاة، ومن كان هذا سلوكه فخليق به أن يُبشَّر بالجنة من النبي الذي لا ينطق عن الهوى.

رُوي عن سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((عشرة من قريش في الجنة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن مالك، وسعيد بن زيد، وأبو عبيدة بن الجراح)).

ورُوي عن ابن عوف قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعليٌّ في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبدالرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة)).

وجاء في الأثر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اثبت حراء -جبل- فإنه ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد)).

فروى سعيد أسماء تسعة: رسول الله، وأبا بكر، وعمر، وعليًّا، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن مالك، وقال: لو شئت أن أُسمي العاشر لفصلتُ، يعني نفسه.

ولما هاجر سعيد بن زيد إلى المدينة نزل على رفاعة بن عبد المنذر أخي أبي لبابة، وقال الواقدي في الطبقات الكبرى: "إن رسول الله - عليه السلام - آخى بين سعيد، ورافع بن مالك الزرقي".

ولكن ابن عبد البر في الاستيعاب قال: "إن الرسول آخى بين سعيد وأبيِّ بن كعب".

غزواته :

أما فيما يتَّصل بشهود سعيد غزوة بدر أو عدم شهودها، فهناك اختلاف واضح بين الواقدي وابن عبد البر؛ إذ يَحكي الأول أن الرسول - عليه السلام - لما تحيَّن فصول - رجوع - عير قريش من الشام بعث طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد قبل خروجه من المدينة بعشر ليال يتحسَّسان خبر العير، فخرَجا حتى بلَغا الحوراء - مكان قرب بدر وفي طريق العير - فلم يَزالا مُقيمين هناك حتى مرَّت بهما العير، وبلَغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر قبل رجوع طلحة وسعيد إليه، فندب أصحابه وخرَج يريد العير، فساحلَتْ أي: اتخذَتْ طريق الساحل القريب من البحر لتُفلت من قبضة الرسول - كما أنها أسرعَت وواصلت سيرها ليلاً ونهارًا فرارًا من تعرُّض المسلمين لها؛ وذلك يعني فرَقًا وخوفًا من الطلب.

وخرَج طلحة وسعيد يُريدان المدينة؛ ليُخبِرا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خبر العِير، ولم يطمَعا بخُروجه، فقَدِما المدينة في اليوم الذي لاقى رسول الله - عليه الصلاة والسلام - فيه النفير من قريش ببدر: (وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً)[الأنفال: 42].

وترتيبًا على هذا الذي ذكَره الواقدي أن طلحة وسعيدًا وإن لم يشهد وقعة بدر فقد استحقَّا أن يَضرب الرسول لهما ببسهمَيهما وأجورهما في بدر؛ إذ كانا في مهمة تتعلَّق بهذه الوقعة، ولكنْ أنْ يذكر ابنُ عبد البر في الاستيعاب وابن هشام في سيرة النبي أن سعيدًا وطلحة كانا يومئذ بالشام، ومع ذلك فالرسول يَضرب لهما بنصيبيهما! فهذا يكون موضِع نظر إلا أن يكونا قد سافَرا إلى الشام في رحلة لاستطلاع حركات المُشركين الذين خرجوا إليه في تجارة...هذا فرض يحتمل الخطأ والصواب، والله أعلم.

وقد شهد سعيد بعد ذلك أحدًا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان لسعيد نحو أربعة وثلاثين ابنًا وبنتًا، ولكن معظم أولادِه لم يعقبوا.

وروي عن طلحة وسعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن قُتل دون مالِه فهو شهيد)).

ورُوي عن سعيد بن عمر، وعمر بن حريث، وأبي الطفيل، وعبدالله بن ظالم المازني، وزر بن حبيش، وأبي عثمان النهدي، وعروة بن الزبير، وأبي سلمة بن عبدالرحمن، وغيرهم.

مجاب الدعوة :

وكان سعيد بن زيد مُجاب الدعوة؛ من ذلك أن أروى بنت أويس شكتْهُ إلى مروان بن الحكم وهو أمير المدينة لمعاوية، وقالت: إنه ظلمني أرضي، فأرسل إليه مروان، فقال سعيد: "أتروني ظلمتُها وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من ظلم شبرًا من أرض طُوِّقه يوم القيامة من سبع أرضين))؟!

اللهم إن كانت كاذبة، فلا تُمِتْها حتى تُعمي بصرها، وتجعل قبرها في بئرها"، فلم تَمُت حتى ذهب بصرها، وجعلت تمشي في دارها فوقعَت في بئرها فكانت قبرها.

وفاته :

وقد استُصرخ على سعيد يوم جمعة، بعدما ارتفع الضحى، وكان مُقيمًا بالعقيق من ضواحي المدينة، وحين تُوفي قام ابن عمر بتحنيطه بالمسك وحُمل إلى المدينة ودفن بها، ونزل في مقربة سعد بن أبي وقاص؛ وذلك سنة خمسين أو إحدى أو ثمانٍ وخمسين من الهجرة، وهو يومئذ ابن بضْع وسبعين سنة.

وبقي أن تعلم أن زيد بن عمرو والد سعيد كان يَطلب الدين الخالص لله؛ فقد قدم الشام، فسأل اليهود والنصارى عن الدين فلم يُعجبه دينهم، وكان يُعادي مَن عبَد مِن دون الله شيئًا، ولا يأكل ما ذُبح على الأصنام.

وأُثر عن والد سعيد أنه كان يقول أنا أنتظِر نبيًّا من ولد إسماعيل يُبعث ولا أراني أُدركه، وأنا أومن به وأصدِّقه وأشهد أنه نبي، وقال لأحد رفقائه - وهو عامر بن ربيعة -: "فإن طالت بك مدة، فرأيته فأَقرِئه مني السلام"، قال عامر: فلما بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسلمت وأخبرته بقول زيد بن عمرو وأقرأته منه السلام، فرد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترحَّم عليه، وقال: ((قد رأيته في الجنة يسحَب ذيولا)).

وعن حجير بن أبي إهاب قال: رأيت زيد بن عمرو وأنا عند صنم بوانة، بعدما رجع من الشام، وهو يُراقب الشمس، فإذا زالت استقبَلَ الكعبة فصلى ركعة وسجد سجدتين ثم يقول: هذه قبلة إبراهيم وإسماعيل، لا أَعبُد حجرًا ولا أصلي له، ولا أذبح له، ولا آكل ما ذُبح له، ولا أستقسِم بالأزلام، ولا أُصلي إلا إلى هذا البيت حتى أموت، وكان يَحجُّ فيَقف بعرفة، وكان يُردِّد في تلبيته: لبَّيك لا شريك لك ولا ندَّ لك.

وهكذا فُتحت أمام سعيد بن زيد أبواب النجاة فترعرَع في ظلِّ والده الذي فُطر على وحدانية الله، وكان مِن السابقين لدعوة رسول الله.
يتم التشغيل بواسطة Blogger.